سقوط الأنظمة الشيوعية والحروب الفكرية والإيديولوجية لليبرالية المتوحشة،وتاريخها:
بعد سقوط جدار برلين وانهيار الإتحاد السوفياتي، اللذين توجا سقوط محاولات
النمو اللارأسمالي، وسقوط تجارب سياسية واقتصادية وثقافية معينة، ظهرت أقوال في
العالم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، تتحدث عن انتصار الرأسمالية، وموت
ماركس والإيديولوجيات، ونهاية التاريخ والصراع الطبقي، وسقوط المثالية
الجماعية. وشجعت هذه الأقوال بعض التنظيمات الاشتراكية في أوربا على السير قدما في
اتجاه التكيف مع 'الأهداف الجديدة للحداثة". وادعت الليبرالية في انتصاراتها،
أن النظام الرأسمالي عجائبي، ينظم نفسه بنفسه، وأن قيم المنافسة غلبت قيم التضامن
في الأنظمة الشمولية، وأن النمو الحر للفرد قيمة نهائية.
لكن إدعاءات الرأسمالية بالانتصار لم تستطع إخفاء تناقضاتها والصراعات الطبقية
التي أخذت أشكالا أخرى. فكيف تكون الليبرالية منتصرة وتناقضاتها موجودة؟
كيف تكون الإيديولوجيا ميتة، فقط، عندما تهدف إلى الكشف عما يخفيه النظام
الرأسمالي من مصالح طبقية ومصالح خاصة واستغلال واستعباد لمعظم الناس، وحية عندما
تمدح النظام الرأسمالي وتؤبد مفاهيمه؟ وهل تعني سيطرة الفكر الليبرالي
الجديد الآن في العالم نفيا للإيديولوجيا؟ والتاريخ لم ينته. وكيف ينتهي؟
وهل انتهى الإنسان؟ وهل انتهى نشاطه؟ وهل انتهت العلاقات الاجتماعية؟
وكيف ينتهي التاريخ إذا كانت روحيته في الكائن، على حد تعبير هايدغر؟
وأين حقيقة الأشخاص وممارساتهم في الواقع الأرضي؟
الإيديولوجياهي دائما من حيث التعريف، إيديولوجيا
الإيديولوجيا. تجربة
"الخلاص" هذه التي أدركت خلال الأحزاب السياسية واقتصاد السوق، كأنها
غير إيديولوجية، وكأنها طبيعة الأشياء، أليست إيديولوجية بامتياز؟ لا إيديولوجيا
إذا لم تتحدد بالنسبة إلى إيديولوجيا أخرى. ولا يستطيع الشخص الخاضع لايديولوجيا
معينة القول عن نفسه "أنا في الإيديولوجيا"، إذ ينبغي أن يعرف آراء أخرى
ليميز موقفه الحقيقي.
في الواقع لا حقيقة من دون وهم. ما نشعر به كـ "حقيقة" ليس الشيء
نفسه، إنما دائما يرمز إليه مشكلا ومبنيا من ميكانيزمات رمزية. وتكمن المسألة في
أن الترميز ينتهي دائما بالإخفاق، ولن يصل أبدا إلى تغطية كاملة للواقع، ويوجب
دائما قرضا رمزيا غير مدفوع. الواقع مبني رمزيا (أو كما يقول علماء الاجتماع
"اجتماعيا"). فالحقيقة ليست مباشرة "هي نفسها"، ولا تقدم إلا
من خلال ترميز غير كامل، مخفف، ومن هنا تنبعث التمظهرات والظهورات الخيالية، أي في
تلك الهوة التي تفصل الحقيقة عن الواقع وتمنح الحقيقة خاصية الوهم (الرمزي):
الخيال يهب ما يهرب من الحقيقة (مكونا رمزيا) جسما.
المفاهيم كأداة للفهم في شكل عام غير حيادية، وتصاغ وفق نظرة اجتماعية مهيمنة.
تتوافق النظرة الطبيعية أو النظرة الحتمية ذات السببية الأحادية مع المعايير
المسيطرة في ذلك العصر، مما يوقع في فخ التعريفات التي تضع الحقيقة المتناقضة في
إطار جامد، رغم العودة إلى الجدلية. الفكر لا يعمل إلا في الحاضر، تبعا لموازين
قوى حالية وفرقاء حاليين وممكنات واتجاهات
حالية. وحيال هذا الوضع، ما ينبغي طرحه هو الفكر الجذري الذي يتميز برفض
الخداع في الكلام من أجل مواجهة الرأسمالية والتصورات التي تشرع سيطرتها.
بانهيار المعسكر الشيوعي في بداية التسعينات من القرن العشرين، شرع العالم يتحدث
عن ميلاد نظام عالمي جديد، والذي لم يكن في حقيقة الأمر إلا إعادة هيكلة
للنظام الرأسمالي القديم الذي له من العمر أكثر من خمسة قرون، وهو تطور لمبدأ
ترومان، الذي كان معناه حق الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عن العالم
الحر أي العالم الرأسمالي ضد أي خطر يهدده ومنه الخطر الشيوعي، والذي بدوره ظهر
لضرورة توسيع مبدأ مونرو، الذي فرضه بعد الحرب العالمية الثانية التوسع
الاقتصادي الأمريكي من خلال شركاتها المتعددة الجنسيات. فالنظام العالمي الجديد هو
الذي يعطي الحق للولايات المتحدة الأمريكية التدخل في أي منطقة في العالم في حالة
تهديد مصالحها أو مصالح المركز الرأسمالي، كدولة أصبحت أداة للدفاع عن
مصالح الطبقة البرجوازية العالمية.
لقد شكلتنهاية الشيوعية إحدى الأفكار الأكثر قوة للرأسمالية، وعطلت النظريات
المعادية للرأسمالية.فبعد سقوط حائط برلين وانهيار الأنظمة الشيوعية، استدعى ذلك
مناخا غير مسبوق لخلق منظمات قادرة على نصح الدول الانتقالية، فظهرت مراكز الفكر
بسرعة لتكون البديل المرن والحديث لمراكز التحليل البيروقراطية للحقبة الشيوعية.
رأت فيها المؤسسات الأمريكية فرصة فريدة لتوسيع نفوذها، خاصة تلك التي تحفز
السياسات الليبرالية، فكانت النتيجة: ثلث المراكز الجديدة لبحث هذه التنظيمات
تستعمل مفردات "السوق الحرة" "الليبرالية"
و"الإصلاح" للمجتمع مع تنظيمات مثل مؤسسة السوق الحرة الليتوانية في
فيلنيوس (Vilnius) ومؤسسة غدنسك
لاقتصاد السوق في هنغاريا. شكلت هذه التنظيمات غالبا، المصدر الوحيد للخبرة
المتاحة، وكان لمراكز البحث هذه تأثير بالغ على أجندة الخصخصة وإعادة هيكلة أجهزة
الدولة في الشرق (أوروبا).
في الولايات المتحدة الأمريكية ازدادت "مراكز الدفاع" بعد الحرب
العالمية الثانية. في التحضير للبديل للاشتراكية الذي بدأ منذ شباط 1947،فقد أعلن فريدريك
هايك(F. Hayek) :" إن
جهدنا يختلف عن المهمة السياسية: يجب أن يستهدف المدى البعيد وليس ممارسته مباشرة".
"لا يتعلق الأمر بالنسبة لرجال القطيعة هؤلاء أن يغيروا الناخبين
الوسطيين والبرلمانيين ووسائط الإعلام الذين يعومون جميعهم مع التيار، ولكن أن
يغيروا اتجاه الأمواج". هكذا
يذكر سيرج حليمي([1])
بالنسبة لعمل مراكز الفكر الليبرالية الجديدة الطويلة النفس.
في العالم الرأسمالي أصبح الناس يتحدثون بشكل أو بآخر عن طبقة بدأت تسود في
المجتمعات الرأسمالية، فسيطرة الطبقة البرجوازية ستندحر كما اندحرت طبقة
النبلاء في القرن الماضي، إلا أن السيطرة القادمة لا تكون لطبقة
البروليتاريا كما قال ماركس بل لطبقة بروليتارية من نوع أخر جديدة هجينة،
تتكون من المثقفين، وتتمثل في الذين يستعملون الفكر في عملهم ويسيطرون على أدوات
المعلومات والمعرفة.
وإن طبقة المثقفين الجديدة بمفهومها الواسع، المتمثلة في الذين يستعملون الفكر
في عملهم ويسيطرون على أدوات المعلومات، تتشكل في العالم الرأسمالي بقادتها، من
أبناء وورثة الطبقة البرجوازية السائدة، حيث تم خوصصة التعليم والتكوين،وأبناء
الطبقة البرجوازية هم الذين لهم الوقت والإمكانيات المادية اللازمة لتنمية الفكر
والحصول على المعلومات المطلوبة والوصول إلى مصادرها وفي وقتها والتحكم فيها
والسيطرة عليها.
الطبقة البرجوازية والرأسمالية في العالم المتقدم تدرك أن نظامها مهدد من قبل هذه
الطبقة الجديدة المتمثلة في العلماء والباحثين والمثقفين والمفكرين، فالثورات
القادمة في العالم وبشكل آخر هي ثورات هذه الطبقة الجديدة التي ستحطم كل من يقف في
وجهها كما يذكر ذلك الكثير من الدارسين المتتبعين والمتخصصين منهم ألفين توفلر
(Alvin Toffler) في كتابه: "تحول
السلطة بين العنف والثورة والمعرفة". فقامت الطبقات الرأسمالية في
الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، منذ أمد بعيد باحتواء هذه الطبقة الجديدة
واستيعابها، ولا يخفى على أحد أن مراكز الدراسات الإستراتيجية التي تضم في العالم
الرأسمالي و المتقدم باحثين كبار كان من وراء إنشائها رجال المال مثل مؤسسات روكفلر،
فورد، راند .....وغيرها، والهدف من إنشائها التأثير على صناعة
القرارات من خلال تقارير ودراسات وأبحاث هذه المراكز، واستعمال هذه الأبحاث لخدمة
مصالح الرأسمالية، والهدف الأخير من ذلك كله هو احتواء المثقفين والمفكرين
الرافضين للكثير من القيم والممارسات الرأسمالية وإعطاؤهم المجال المناسب لإبراز
كفاءاتهم العلمية، بالإضافة إلى أجور باهظة لتطويق احتمالات تمردهم وتأثيرهم في
المجتمعات الرأسمالية. كل ذلك دون نسيان تحويل إبداعاتهم إلى سلع تعود بالفائدة
على الرأسماليين بطرق متعددة، وملكيتها عن طريق براءات الاختراع وحقوق الملكية، مع
توجيه هذه الإبداعات في خدمة الرأسمالية.
فيجويلية 1973 عندما بدأت نهاية حقبة "التهدئة" أطلق ديفيد
روكفلر(D.Reckfeller)"اللجنة الثلاثية"التي كانت إلى هذا الحد أو ذاك نقطة انطلاق
الحرب الأيديولوجية الحديثة. كان المقصود أن يتشاور مدراء الشركات المتعددة
الجنسيات وحكام الولايات المتحدة الأمريكية
وبشكل عام أنصار الليبرالية الاقتصادية وأن يفرضوا تصورهم للعالم.
ثمة في أوربا شبكة من المثقفين الليبراليين الجدد، إنها شبكة ستوكهولم
في لندن التي أنشأها السويدي تمبرو(Timbro). هناك ما مجموعه 130
مركز فكر كلها دوغمائية ومناصرة للسوق الحرة ولعدم تنظيم الاقتصاد بأوسع ما يمكن
ولمعدل ضريبي موحد لجميع المكلفين(Flat Tax) مهما كانت مداخليهم. إنها امتداد لتراث طويل
لجماعات البحث ذات الإيديولوجيا الجذرية، ولدت لتغليب الرأسمالية بوجه الاقتصاد
الموجه للنظم الشيوعية خلال الحرب الباردة. هؤلاء الاقتصاديون الذين نسجوا روابط
متينة ما وراء الأطلسي، قد ألهموا سياسة رونالد ريغان(R. Reagan) ومارغريت تاتشر(M. Tatcher). جمعية مون بيلران
(Mont-Pèlerin) التي تأسست عام 1974
من قبل فريدريش هايك(F. Hayek)، وهو اقتصادي بريطاني
من أصل نمساوي ويلقب من البعض بـ "بابا الليبرالية القصوى"، يلعب فيها
دور الحل والربط. العديد من شركات النفط ومتعددة الجنسيات في صناعة الدواء تمول
هذه الشبكة. فليس من المفاجئ إذن أن نكتشف فيها مجموعات من الباحثين الذين ينشطون
على مواضيع أساسية لمنشآت كبرى مثل بروتوكول كيوتو بخصوص ارتفاع درجة حرارة
الأرض، أو براءات اختراع(Brevetage) برامج الحاسوب. مركز من اجل أوربا جديدة
(CNE)، في هذا المجال، هو
الأول من نوعه في بروكسل عام 1993. بعض الشركات متعددة الجنسيات فهمت باكرا جدا
الفائدة التي يمكن تحصيلها من دعم هكذا حركة ومن توصيل اهتماماتها الخاصة لها.
موضوع مفضل آخر لدى مجموعة ستوكهولم هو مراجعة النمط الاجتماعي الأوروبي المعتبر
باهظ التكاليف تجاه ارتفاع سن السكان (عدد المسنين المتزايد) والعولمة والبطالة.
يقترح CNEإصلاحه على طريقة الليبرالية المتطرفة وذلك
بتقليص المخصصات ونقل عبء الحماية الاجتماعية على الفرد. من بين الأعضاء الآخرين
في شبكة ستوكهولم نجد المعهد الأوربي للمؤسسة الاقتصادية (EEI). لقد وصفت بلوبي براءات
الاختراع، فهي نشطة جدا لدى المؤسسات الأوربية لصالح ميكروسوفت كما يبدو، ولكن
أيضا لدى مجموعات صيدلانية أو كيميائية عملاقة عملت للحصول على إبراء الحي (Brevetage du vivant) (؟ !).
ويزداد أكثر فأكثر عدد مراكز الفكر التي تعمل مترابطة كشبكة. يشهد على ذلك
الحماسة التي اكتسحت فيها مراكز الفكر الأمريكية أوربا الوسطى والشرقية بعد سقوط
الإمبراطورية السوفييتية. رأينا ذلك مثلا في ملفات مثل ملفات فلات تاكس (Flat Tax)، وفكرة ضريبة معبر
عنها بنسبة مئوية متساوية للجميع، وبالتالي مواتية أصحاب المداخيل المرتفعة لأنها
تلغي الضريبة التصاعدية. مراكز الفكر من غلاة المحافظين مثل مؤسسة "هيرتتج"ومؤسسة
"كاتو" حملت راية الدفاع عنها، في الولايات المتحدة وفي غيرها. وبعد
أن شكلت قوة ضغط كثيف لدى الكونغرس لصالح هذه الضريبة، لاقت دعوتها نجاحا أكثر في
أوربا الشرقية. لقد اعتمدتها استونيا أولا في عام 1974 فارضة ضريبة فلات تاكس
بقيمة 26% بدل ثلاث ضرائب مختلفة على الدخل.
ثم تبعتها ليتوانيا مباشرة بـ 33% وليتونيا 25%. كما اعتمدتها روسيا
كذلك في 2001 وصربيا سنة 2003، أوكرانيا وسلوفاكيا 2004، وجورجيا ورومانيا 2005،
وفي بولونيا وضعت بعض الأحزاب هذا النوع من الضريبة في قلب برامجها.
لقد انتشرت مع العولمة، البنيات التي نشأت للدفاع عن وجهات نظر متحزبة وسياسية
واقتصادية وإيديولوجية أكثر منها لإجراء البحث الأكاديمي، بمساعدة من المؤسسات
الأمريكية الغنية، تحديدا، في الإمبراطورية السوفياتية سابقا وبعدها.
السلطةالمعولمة هي في نفس الوقت جد ممركزة وجد منتشرة. ممركزة بين أيدي البعض،
منتشرة ببنيتها المعقدة في شبكات متعددة ومتنوعة. مكوناتها الأساسية هي بيروقراطيات
الشركات الكبرى والبنوك المتعددة الجنسيات، بيروقراطيات الأمم المتحدة ووكالاتها
المتخصصة، مراكز التفكير الأمريكية والأوروبية التي تخدم هذه السلطة المعولمة، بعض
المنظمات غير الحكومية الكبرى و بعض مؤسسات التكامل الجهوي، بالتحديد المفوضية
الأوروبية، التي أصبحت نيوليبرالية.
مع العولمة، كل شيء أصبح قابلا للبيع وأصبح سلعة، حتى الإنسان في حد
ذاته أصبح سلعة، مع انعدام الأخلاق كبعد وبوصلة إنسانيين، وتحولها(الأخلاق) إلى
أخلاقيات ومعايير بدون معيار، ولا تحترم. سيطر المال وتجارته، والمالية، على العمل
المنتج، وسيطر الرأسمال المالي على الرأسمال الإنتاجي، وأصبح يباع الوهم وما ليس
موجودامع بيع الأجل، وبيع الديون بالفوائد، كما أصبح المال سلعة بدل أن يكون
الوسيط و أداة في التبادل.
عديدة هي مراكز التحليل التي ظهرت هذه السنوات الأخيرة والخاضعة تماما للشركات
المتعددة الجنسيات. إذا كانت الحكومة الأمريكية لم تشأ أبدا مثلا المصادقة على
معاهدة "كيوتو" بخصوص انبعاث الغازات الرافعة لحرارة الأرض، فلأن ذلك
سيكون مكلفا جدا بالنسبة لها، كونها أول مستهلك للنفط في العالم. ولكن أيضا لأن أسياد
الصناعات النفطية الأمريكية تمول مراكز الفكر المشهورة والتي تنتج بانتظام
الدراسات الجديدة لتبرهن أن استهلاك البنزين (الفيول) وغيره من وقود الهيدروكربون
(الأحفوري) ليس له سوى تأثير غير ذي بال في زيادة حرارة المناخ في كل الأرض، وإن
هذا الأمر يحتاج إلى برهان. النشرة الأمريكية النصف شهرية للتفكير، ماظر جونز
(Mother Jones)، تظهر أنه في جوان
2005 دفعت إكسون موبايل (Exon Mobil) مبلغ ثمانية ملايين دولار بين 2000 و2003 إلى
أربعين مركز كي تظهر أن زيادة حرارة كوكب الأرض هو ببساطة عملية خداع واسعة([2]).
مؤسسة المنشأة الأمريكية التي تنشر مقالا عن المناخ في 2004 تحت عنوان "لا
تخافوا، كونوا سعداء" يشرح: "إن التغيير المناخي يمكنه في
الواقع إنقاذ حيوات". مؤسسة كاتوومركز تطوير صوت العلمومؤسسة
المنشأة الحرة، تستغل رحابة أكبر شركة نفط في العالم وتصوب قذائفها الملتهبة
على كل الدراسات التي تحاول البرهنة على زيادة حرارة كوكب الأرض. فهذه هي نشرة
"ماظر جونز" تنصح بسخرية: "ضعوا نمرا في مركز فكركم".
لا يوجد اهتمام لدى الشركات متعددة الجنسيات بمراكز الفكر في الولايات
المتحدة فقط. ولكي تظل أقل ظهورا، تفضل غالبا تمويل وإلهام مراكز الفكر الموجودة
على خلق مراكز خاصة بها.
في السنوات الأخيرة رأينا دخول منظمات مناضلة أكثر منها مفكرة. المصانع
الكبرى وغيرها من اللاعبين تستخدمها للدفاع عن مصالحا في المجال السياسي تحت غطاء
المصداقية الثقافية. والظاهرة الأكثر بروزا في السنوات الأخيرة هو استعمال مراكز
الدراسات بواسطة جماعات ضغط إيديولوجية واقتصادية لأجل تقوية قدرتها على التأثير.
هذه الهيئات المنحازة بعيدة عن عكس حقيقة القطاع ولا تعارض ضرورة امتلاك مراكز
تفكير سياسي مستقلة.
أصبح الفكر جزء من دائرة صناعية تتحكم فيها أجهزة ومؤسسات استوظفته من أجل
تخدير العقول، وإبطال قدرتها على ممارسة النقد.الفكر في ظل المجتمع السلعي صار
يعبر عن رؤية مماثلة للعالم، تكرس الواقع بكل تناقضاته، وتوهم الإنسان بالتحرر،
وهو كجوهر لفعل التحرر بالعقل والتعقل، يموت ويتحول إلى سلعة استهلاكية وأداة
تخدير الجماهير وتدجينها في صورة معينة. " الأكثرية تتعود على استهلاك
الوهم: فأوهام الثروة تباع للفقراء، وأوهام الحرية للمضطهدين، وأحلام النصر
للمهزومين، وأحلام القوة للضعفاء" كما يقول نعوم تشومسكي.
إستراتيجية الصناعة الفكرية تحاول أن تبطل قدرة الإنسان على
التخيل، وتجعل الإنسان ضحية طوفان لا متناهي من السلع الفكرية، لا تمنح له متسعا
من الوقت لكي يستوعب كل هذا السيل العارم من المنتوجات، فيكون عاجزا عن تأملها
والتدبر فيها، والتفكير في كل أبعادها. ما تريده هذه الصناعة هو قبول السلعة
الفكرية كما هي دون مراجعة، وتحويل المتلقي إلى مجرد واجهة استهلاكية منقوصة
الفعالية، تفكر في مكانه، وتتخيل في مكانه، وتفرض عليه أذواق هي أشبه بمنبهات شرطية توفر للمنتوج الفكري إمكانية
تسويقه.
نحن نعيش اليوم تحت تأثير فكر نمطي، معلب، في قوالب قيمية وجمالية تصدرها
وسائل الإشهار والدعاية الحديثة التي تعتمد الإغراءات التي توفرها التقنية، الأمر
الذي يعني كنتيجة أن هذه الأخيرة هي كما قال هاربرت ماركيوز: "مشروع اجتماعي تاريخي
غرضه تحقيق السيطرة".
أصبح الفكر يعرف بأنه "نتاج مصنوع ليوزع تجاريا، وبالتالي يخضع
لقانون العرض والطلب"، وبذلك فأول ما يخضع له هو آلية التصنيع،
وينخرط في دائرة الإنتاج الصناعي الموجه للاستهلاك العام. من هنا يغدو الفكر فعلا
استهلاكيا بالدرجة الأولى، والمتلقي هو المستهلك، لأنه يقوم باقتناء الفكر كمنتوج
في المرحلة الأولى قبل الدخول في غمار استخدام ذلك الفكر الجاهز. تقتضي إذن صناعة
الفكر وجود مؤسسات لها رؤوس أموال ومجهزة بيد عاملة وبآلات وتقنيات، والأهم من ذلك
مدعمة باستراتيجيات وخطط عمل توضح سيرورة وصيرورة تحرك المنتوج الفكري في السوق،
فالفكر ليس فقط صناعة، لكنه أيضا يمثل تجارة رابحة. وطغيان المنطق التجاري على
حساب نشر الفكر يضاعف من الكارثة. فآليات النشر تراعي متطلبات الجمهور الافتراضي
الذي يجب صنعه، وحاجات الواقع، فالناشر أو مندوبه يتمثل جمهورا معينا، ويختار بين
ما يقدم له من منتوج فكري، المناسب أكثر، لهذا الجمهور. ولهذا التمثل، طابع مزدوج
ومتضاد، إذ فيه، من جهة، حكم واقع على ما يفضله ذاك الجمهور، ليشتريه، ومن جهة
أخرى، حكم قيمي على ما يجب أن يكونه ذوق وحاجة هذا الجمهور، انطلاقا من معطيات
النظام القيمي للجماعة البشرية التي تجري العملية في بوتقتها.
في الحقيقة، لا يمكننا محاربة واحدة من هذه المؤسسات (الاقتصادية) بصفة
فردية. إنهاالشركات المتعددة الجنسيات، المنظمة، حتى في بنيتها وطريقة عملها،
وفق إيديولوجية جد محددة. نظامها لا يطرح علينا السؤال البسيط، المحايد،
لمعرفة ما نريد أو لا نريد استهلاكه فيما تنتجه من سلع؛ إنها تطرح علينا
ببنيتها وطريقة عملها، إضافة إلى منتجاتها، أسئلة سياسية: تلك الأسئلة حول
خياراتنا الاجتماعية ومشروع المجتمع الذي نريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق