أزمة العالم بأزمة الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة، المسيطرة والمهيمنة،
ومظاهرهما:
لا شك أن عالمنا المعاصر في حاضره، يعيش أزمة متعددة الأبعاد، متمثلة في تميع
القيم، طغيان الماديات، تشيء الإنسان وعلاقاته، وموته بعد "قتل الإله"
مع فريدريك نيتشه وما تبعه من حديث النهايات ضمن "ما- بعديات" "بعد-الوجودية"
فيما يسمى بـ"ما-بعد" الحداثة، مشتقاتها وشقيقاتها، إضافة إلى اضطراب
الطبيعة بإفسادها واستنزافها عن إسراف وسوء توزيع هيكلي.
هي أزمة ناتجة عن الأزمة الهيكلية للرأسمالية العالمية والنيوـ ليبرالية
(الليبرالية الجديدة) المتوحشة المسيطرة على العالم كنتيجة لسقوط الإتحاد
السوفياتي، وانحسارالاشتراكية ونضال "البروليتاريا" مع سقوط جدار برلين
1989، بحيث حيدت الديمقراطية (في شكل "ديمقراطية الأغنياء" كـ"أفيون
للشعوب") وسيطرت
"ديكتاتورية السوق"، وانقسم العالم إلى قلة مترفة بفائض زائد عن جميع
الحدود، تزداد ترفا وجشعا، وأكثرية تحت عتبة الفقر، مستغلة وعلى الهامش، تزداد
فقرا واستغلالا إضافة إلى الحروب بمآسيها ومخلفاتها في أفراد هذه الأكثرية، وذلك
رغم كثرة الموارد وزيادتها عن مجموع الحاجة الإنسانية، تبذيرا فيها. فقد ضحي
بالعدالة من اجل سراب الحرية العرجاء، والتي هي للأقوياء فقط، واختل الميزان وفقد
التوازن في الطبيعتين الإنسانية والأرضية.
احتكر المال من طرف مجموعة صغيرة ( "الرأسمالية الاحتكارية" - بتعبير
"لينين" - التي تنشأ من قضاء الرأسماليين الكبار على الرأسماليين
الصغار) من خلال الشركات متعددة الجنسيات، وتحكم خمسين (50) بنكا فقط وحوالي خمسة
آلاف من المرابين العالميين في شؤون العالم، وهؤلاء يملكون الآلاف من مليارات
الدولارات من الديون العالمية، وهي لا تشكل إلا ثلث ما يملكونه من الأموال.
من الأزمة التي يعيشها العالم بجميع مكوناته، والتي تهدد البشرية، الأزمات
المالية العالمية المتعددة الشديدة والمتوالية متقاربة جدا ومتسارعة. ومنها، ظهور
الحركات العالمية المناهضة للوضع من مثل الحركات المناهضة للعولمة(Altermondialistes)، بخاصة جمعية ATTAC ، ثم خمودها، وبعدها حركة
المحتجين(les Indignés)وحركة احتلال والستريت (occuper wal-street)، وكلها كيسار عالمي يحاول
المقاومة ضمن المركز. وتلك، يضاف إليها الانتفاضات العربية التي هي رد فعل الهامش
على مركزية النيوـ ليبرالية العالمية المتوحشة. وهي حركات تعرف "ما لا
تريد" ولكنها لا تعرف ما تريد كبديل أصيل وفاعل، وهو سبب جمود هذه
الحركات وعدم تحقيق غاياتها. فالأزمة الحقيقية هي أزمة بديل ومرجح كفة، وأزمة
إيديولوجية على المستوى الفكري لمقارعة سيطرة الأيديولوجية النيوـ ليبرالية
المتغطرسة، لما للأيديولوجية من وظيفة تمويه وانعكاس.
الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اندلعت في ديسمبر 2010 و جانفي
2011 في جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط هي، طليعة حركات مشابهة ومتزامنة في أمكنة
أخرى في العالم. إنها لا تعبر فقط عن كراهيتها وتذمرها من الأنظمة الديكتاتورية والمافيوية،
لكن أيضا تعبر عن فقدان الأمل والشقاء الاجتماعيين اللذين يمسان شرائح واسعة من
المجتمعات.
خلال الانتفاضات الشعبية التي عمّت ما يسمى العالم العربي ابتداءً من
بداية عام 2011، كانت دوافع المتظاهرين من المحيط إلى الخليج تعود إلى تردّي
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم مواقع الفساد والإفساد في ظل الإصلاحات
النيوليبرالية التي طبقت في معظم الدول العربية.
تعثر الموجة لما يسمى الثورات العربية هو لغياب أي تصور لنموذج تنموي بديل من
التنمية المشوهة التي تتميز بها سلبا الإقتصادات العربية جميعها باعتبارها هامش
المركز النيوليبرالي كضحية له، وهي اقتصادات ريعية الطابع واحتكارية تركز
الثروات في أيدي قليلة تجني أرباحا طائلة وسهلة، لا تستثمرها في بناء قدرات
إنتاجية في مجال العلم والمعرفة، توظف في نشاطات إقتصادية ذات القيمة المضافة
العالية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي بدورها تؤمن فرص العمل وترفع مستويات
المعيشة، خاصة لدى الفئات الفقيرة والمهمشة التي تعيش حياة يومية بحثا عن لقمة
العيش في بحر من الثراء غير المشروع لدى القيادات السياسية وتوابعها من رجال
الأعمال. فأهم شعار قد رفع من المحيط إلى الخليج هو الخبز والكرامة. ما جمع
الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج في مارس 2011 هو مطلب الخبز والكرامة، أي
المجتمع الإنتاجي الذي وحده يوفر فرص العمل اللائقة ويحقق الكرامة في كل قطر وعلى
مستوى المجموعة ككل، للتخلص من كل الهيمنات الخارجية المثبطة.
ومما لا شك فيه أن الحركات الشعبية العربية رغم أنها ليست إلا طبعة منقحة للثورات الملونة في بلدان
الإتحاد السوفياتي سابق، قد أثرت في العالم الغربي بحيث أنها قد ألهمت بدورها التحركات الاحتجاجية التي عمّت بعض الدول الأوروبية
مثل اليونان واسبانيا وايطاليا والبرتغال، بالإضافة إلى حركة المحتجين وحركة "احتلال وول ستريت"، ذلك التحرك الشعبي في الولايات المتحدة ضدّ بورصة نيويورك الذي كان شعاره"احتلوا
وول ستريت".
العالم في حاجة، ويتطلب بديلا حقيقيا فاعلا وفعالا لنجدته،على المستوي النظري
أولا، وعلى المستوى العملي التطبيقي ثانيا.بديل يكونابستمولوجيا، من خارج
الإيديولوجية المسيطرة بالاقتصاد وعلومه، كنموذج وبراديغم أو ابتسمي مركب متعدد
التشكلات ،التمثلات والتلونات، يتم تجاوزه من خلاله هو بذاته، بدفعه على نفسه إلى
أقصى حده، بما هو كذلك براديغم ينفك عن نفسه بقطيعة في حركة جدلية دياليكتية محصلة
التناقض والتعارض في ثنائية الوجود الأنطولوجي في شكله المادي والفكري.
تحدي البديل الملح ومهمة اليسار العالمي:
نعيش مرحلة تاريخية أين تتمظهر موجة من الحروب والثورات. ضحايا هذا النظام
(النيوليبرالي العالمي المتوحش) هل يمكنها النجاح في تكوين بديل إيجابي، مستقل
وراديكالي؟ذلك هو التحدي السياسي اليوم.
حان الوقت للجرأة !نحن في لحظة تاريخية أين
البحث عن "عقد اجتماعي" رأسمال/عمل آخر يمثل بديلا ممكنا كما في
ما بعد الحرب، لكن ليس مع الاشتراكية الديمقراطية (الديمقراطية الاجتماعية)
للدول-المهيمنة. بعض أصحاب الحنين يتصورون إمكانية "الإرجاع إلى الخلف"
لرأسمالية الاحتكارات على أعقاب مواقعها منذ عشرات السنين. لكن التاريخ لا يسمح أبد
بالرجوع إلى الوراء.
نحن في لحظة تاريخية أين اليسار
يجب أن يكون جريئا. هذا اليسار المقتنع بأن النظام الرأسمالي يجب تجاوزه مبدئيا.
لكن أيضا يسار لا يضيع ضمن نظرته بأن الاشتراكية يجب إعادة اختراعها بدون ضرورة
نموذج موجود مسبقا.
لا يمكننا الحلم بأن
الأفراد يمكنهم تغيير العالم فقط بمعجزة نشاطاتهم وأعمالهم الفردية - الفكرة التي
نجدها عند العديد من الحركات الاشتراكية و عند الفلاسفة مثل توني نيقري (Toni Negri).
الرأسمالية نظام عالمي والكفاحات
السياسية والاجتماعية، إذا أرادت أن تكون فعالة، يجب أن تمارس في نفس الوقت على
الحلبة الوطنية كما على المستوى الدولي والعالمي، خاصة على المستوى النظري والفكري
كما على المستوى العملي والواقعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق