تقييد العمل بشروط مالية وإخفاء دور المال الحقيقي:
أصبح العمل مقيدا بشروط مالية لا ينطلق بدونها. فلا يزال المال مهيمنا على
تسخير العمل، مع بعض التخفيف في درجة القيود عندما ننتقل من البلاد الرأسمالية
الصريحة، حيث يصبح المال وكأنه يخفي دوره أو لا يخفيه بتحول ملكية المال فعلا من
الأيدي الخاصة أو المصرف إلى يد واحدة هي يد الدولة، من المصرف إلى الخزينة.
فقد نشأ (المال) في الحقيقة ليقوم بدورين:
الدور الأول: وهو دور تسهيل التبادل والمعاملات وهو دور متفرع عن عملية التوزيع.
الدور الثاني: متفرع عن عملية الإنتاج وهو كوسيلة اختزان (توفير كما نقول اليوم) للجزء
الباقي من عمل المنتج، حتى يستطيع رده على حاجات أخرى، أو على أيامه الأخرى إن كان
توقف عمله بسبب مرض مثلا.
فـ (المال) مهما كان نوعه ذهبا أو فضة أو ورق هو دون قيمة في ذاته، فقد كان
الوسيلة لاختزان العمل حتى يعود لصاحبه في حاجات أخرى أو في أيام صعبة، تماما كما
تخزن الطاقة في بطاريات.
وهو بذلك يمثل فائض العمل عن حاجات البيت، أو عن مقتضيات إنتاج الورشات، والتي
تتحدد بمستوى المعيشة في ذلك الوقت، والمحدد بدوره بطريقة الحياة وثقافة العيش
وأدواتهما بتكلفة إنتاجها من الوقت بالمقارنة بالمعيشة اللازمة للمنتج لإنتاجه (يمكن
التعبير عن ذلك بمعادلة إقتصادية مركبة ليس محلها هنا). وهو الفائض الذي يخزن
بطبيعة الحال في خزان، يرد فائض العمل لصاحبه أو أصحابه إذا اقتضى الحال، فكان
الذهب يتعين عليه أن يقوم بهذا الدور، لأن قيمته لا تنقص وتظل ثابتة أو تزيد حسب
الفائض الفعلي للإنتاج الحقيقي المادي المباشر، لا التبادلي غير المادي، وفي
المجتمع ككل، عن طريق السوق، ذلك عكس النقود الورقية حاليا (ما يجعل المعادلة
المذكورة فيما سبق أعقد).
وبقدر ما تراكمت وتجمعت الأموال، في منشآت المصرف، تحول أولا طابعها الاجتماعي،
وأصبحت تمثل شيئا جديدا هو (الرأسمال)، ثم تحولت طبيعة الصلة بين المال والعمل، فبعد
أن كان مجرد خزان للعمل أصبح سجانا له، السجان الذي لا يعترف لسجينه بحق سوى العمل
في مصلحته.
تجمع كل أموال المجتمعات في النظام الرأسمالي العالمي لدى مجموعة قليلة جدا من
المؤسسات المالية والبنوك، عن طريق فتح الحسابات الجارية للصناعيين أو الزراعيين
أو التجار المبعثرين هنا وهناك، فيتحول البنك إلى عارف بكل المعطيات الاقتصادية
للجميع، مما يسمح له بالإشراف والتأثير في العمليات الاقتصادية، فتسهل عملية
الاستثمار لهذا وتعقدها لذلك، فيصبح المنتج تحت رحمة البنك عند تفكيره في إقامة أي
مشروع اقتصادي، وبذلك تتحكم قلة من البنوك في إدارة وتوجيه مختلف المشاريع
الاقتصادية، فتصبح سلطة قوية على المجتمع يمكن تسميتها بـ "سلطة المال"
التي تعتبر أخطر سلطة في المجتمع، وهو ما يدفعنا إلى أن نستنتج أن أصحاب المؤسسات
المالية الدولية والبنوك والمتحكمون فيها هم صاحب السلطة الفعلية في النظام
الرأسمالي وليس السياسيين وما شابههم.
واليوم تنوسي دور المال بوصفه مجرد خزينة يودع فيها فائض العمل، لتعيده لصاحبه
عند الحاجة، وأصبحت أذهننا لا يمكنها تصور عمل دون مال، ولا مشروع اقتصادي دون
تسبيقات مالية، وأصبح العمل فعلا سجينا لا يتحرك إلا بإذن صاحب السجن أي
الرأسمال.
وإنه في حين يعطي البعض معنى الاعتقاد صفة إرادية (معظم المفكرين الليبراليين)
فإن البعض الآخر يعطيه صفة لا واعية أو لا إرادية، كما يفعل بيير بورديو (P. Bordiau)، الذي يتحدث عن تواطؤ
الأفراد والجماعات التي تدخل علاقة السلطة كعلاقة طبيعية، ويتحدث عن "الدوافع
الداخلية" التي تدفعهم إلى تقبل ما تلقنه الدولة (و/أو الليبرالية) أو تفرضه
من بنيات معرفية، وهم لا يدركون أن هذه الدوافع هي معارف مكتسبة وغير واعية،
ويعتبر الاعتقاد، لدى بيير بورديو، نتيجة التوافق بين البنيات الموضوعية
والبنيات الفكرية أو نتيجة العلاقة المباشرة العفوية واللاواعية بينهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق