الأحد، 19 يناير 2014

طبيعة مراكز الفكر وعملها، وانحراف الفكر وتحييد دوره



طبيعة مراكز الفكر وعملها، وانحراف الفكر وتحييد دوره:
تقدم مراكز الفكر نفسها كحاضنة للأفكار غير التقليدية وخزان للفكر، وداحض للخطابات، وشبكة للرجال والنساء والمبادرات المتجهة نحو الفعل، أو هيئات مستقلة للبحث تكرس وقتها لمسائل المصلحة العامة وتحليلها. تنظيمات مستقلة نسبيا ومنخرطة بالبحث في أوسع مروحة من المصالح، هدفها الأول هو انتشار هذا البحث أوسع ما يمكن، بنية التأثير على سيرورة تحضير السياسيين للشأن العام. تعتمد البحث التطبيقي على الرهانات العامة ونشر الحلول المناسبة بين أصحاب القرار. يستولدون أفكارا مميزة وخيارات سياسية، تؤمن خزانا من الخبراء الجاهزين للعمل في الحكومة ينفقون الرأسمال الفكري الذي راكموه خارج الحكومة. هي مكان لتكوين المثقفين وللترقية الثقافية، مكان حيث يستطيع أصحاب القرار أن يناقشوا ويختبروا مقاربات جديدة، والمقصود هو إطلاق عدة أصوات حول الموضوع نفسه: رؤساء مؤسسات وخبراء وصحافيين وحتى غير الاختصاصيين، فالانفتاح على مختلف الأفكار مهم وأمر حاسم.
الدور التربوي لمختبرات الفكر لا يقتصر على النخب الحاكمة، فهي تربي المواطنين على الشؤون العالمية والإنسانية. مراكز الفكر جسر بين أصحاب القرار والخبراء ووسائط الإعلام والجمهور الواسع. إننا من خلال هذه الحلقات الفكرية،نصل إلى الأخصائيين الذين يهتمون بالقضايا التي تهمنا والتي لا يمكننا معرفتها بدونهم. إنها تساعد على إقامة الجسر بين مختلف أشكال المعرفة.
إذا لم يكن لديك أفكار متميزة فلست مختبر فكر، وإذا لم تحاول نشرها فإنك رسبت في جهدك لمساعدة المجتمع على أن يتقدم إلى الأمام. لكن في الحقيقة، لا تنقص الأفكار، وإنما الأوساط التي يمكن لهذه الأفكار أن تنتشر فيها بحيث يمكن للقادة أن يواجهوا الطرائق الجديدة في التفكير والحكم. مراكز الفكر الفعالة تعرف كيف تكيف شكل الاقتراحات مع طريقة عمل أصحاب القرار ومستشاريهم، فالبساطة والإيجاز هما سيدا القرار. مختبرات الأفكار تأخذ بعين الاعتبار الوقائع السياسية خاصة، لكي تسهل تحويل المقترحات إلى أعمال يمكن لمراكز أكثر أكاديمية تجاهلها.
تقوم مراكز الفكر في البدء بالتركيز على عدد صغير من الأفكار المركزية والتقدم الممنهج من الواحدة إلى الأخرى فقط بعد بلوغ الأهداف المحددة لكل واحدة.
طورت مراكز التفكير أيضا تقنيات جديدة لتسويق الأفكار. وما أن يتم تسليم ملف للمجالس التشريعية ترسل بالفاكس الملاحظات المقتضبة لكافة أعضاء البرلمان. فهي أولى المؤسسات التي تخصص أكثر من خمس ميزانيتها للاتصال. هناك من افتتحت في استوديوهات إذاعة لكل الشخصيات السياسية أثناء مرورها بمقراتها بالعاصمة. فريق العلاقات العامة فيها يضم عددا معتبرا من الأشخاص، وخبراؤها يظهرون بشكل منتظم في برامج التلفزيون على المحطات الرئيسية. محاضراتها يعاد بثها بشكل منتظم على هذه القنوات.
تتكاثر فرص التواصل لمراكز الفكر بفضل برامج التلفزيون والإذاعة المتواصلة وتطور الانترنت. الإمكانيات المخصصة للاتصال بشكل عام تصل أحيانا إلى ثلث الميزانية الإجمالية للمنظمة. وتتنازع كبرى قنوات التلفزيون ووسائل الإعلام مسؤولي مراكز الفكر الرئيسية، أين يقدمون تحليلاتهم في الحصص الإخبارية أو الحوارية ويكتبون أعمدة في الصحف. كل مركز فكر لديه أخصائي معلوماتية على الأقل وشبكة الأشخاص القادرين على تنشيط موقع المنظمة بحيوية مقدمين الإمكانات العديدة للوصول إلى أعمال منظمتهم: "ويبكاستينغ" (Webcasting) للاستماع إلى المحاضرات دون حضورها، ومدونات (Blogs) تؤمن التواصل بين الباحثين والجمهور الواسع ونشر أبحاثهم مجانا.إنه بذلك تكسب مراكز التفكير الكثير من الانتشار وبالتالي مزيدا من التمويل والتأثير.
مراكز الفكر لديها القوة للإتيان بعنصر هام مما يدعى المجتمع المدني. إظهارا لهذا الدور نرى أكثر فأكثر ممثليها يظهرون على الشاشات للتعليق على الأخبار. الأعمال المنتجة من طرفها هي عموما ثمرة عمل جماعي كثيف وهي تشرح لنا بإسهاب. فثمة في عشرين أو خمسين صفحة عناصر تستلزم أيام عديدة لإيجادها. هذه الأعمال لها أيضا ميزة السرعة بين لحظة البحث والنشر.
التقنيات متنوعة: من لديهم الإمكانية يفضلون الوصول المباشر إلى أصحاب القرار إذا سمح لهم دفتر المواعيد بذلك. التوزيع الحصري للملحوظات على بعض السعداء يمكن أن يكون فعالا بشكل مميز. آخرون يبحثون عن أكبر ظهور ممكن لدى وسائل الإعلام. البيانات والندوات الصحفية تعلن عن خروج الدراسات. تنظم حفلات فطور دقيقة ومختصرة حول موضوع معين دوريا، ما يسمح للصحافيين أن يتحدثوا مع شخص ما وأن يلتمسوا شيئا من هذا الشخص. توقيع الافتتاحيات من خبراء مشهورين ومساهمين في مراكز الفكر مرغوب جدا من الصحف. بالنسبة للممولين يؤدي هذا الظهور في الصحافة إلى الحديث عن المنظمة وإشباع نهمهم إلى البروز. تنظم مراكز الفكر أيضا حلقات للدراسة والنقاش، متخصصة إلى هذا الحد أو ذاك، تبعا لاهتمامات هذا أو ذاك، بتمتين مصداقيته الأكاديمية. إيصال تقارير الخبرة للجان البرلمانية هي طريقة مهمة للتأثير. تأهيل النخب السياسية والأكاديمية هي طريقة أخرى، فالمراكز الأكثر تجهيزا وضعت مسارات تعليمية وتدريبية مكيفة خاصة للنواب وللطامحين بالوظائف العامة. إنها إحدى إستراتيجيات التأثير الأكثر مردودا على المدى البعيد. باستثناء المجلات، فإن الظهور في الإعلام وفي بعض الندوات المفتوحة للجمهور والأعمال باتجاه الجمهور الواسع تختلف حسب نماذج مراكز الفكر. وبالنسبة للبعض، فإن الرأي العام ليس إلا هدفا ثانويا وأن الهدف الرئيسي دائما هو التأثير على السياسات العامة. أولوية الاتصال مع الرأي العام هي على كل حال، ميزة بالغة "لمراكز الدفاع" التي كانت تطرح على نفسها مهمة جعل بعض الأفكار مقبولة ليس فقط لدى الحكام ولكن أيضا لدى الجمهور الذي كان يمكن أن يرفضها.
مراكز الأفكار التي صنعت أثناء العشرين سنة الماضية، تميل إلى الالتزام بقضية سياسية أو إقتصادية عوض النظر إلى المصلحة العامة. عدد كبير من مراكز التفكير متهم بخلق ظروف مريحة "للفكر الأحادي". هذا هو الاتهام الذي توجهه كيث ديكسون (Keith Dixon) في كتابها "إنجيليو السوق" "Les Évangélistes du marché" ضد المدافعين عن الأطروحات الاقتصادية الليبرالية الذين هم جمعية مون بيلران (La société des Mont Pélerin) المهاجمين بعنف التوافق الكينزي([1]).
لقد أفلحت الشركات العالمية والجماعات المتخصصة في إنتاج الحروب والأزمات، في تحييد دور الفكر وإفراغه من الجوانب المعنوية، ومن جوهره، وهو يتجه اليوم نحو عزلة كبيرة بفعل انشغالاته الذاتية، المنفصلة عن حياة المجتمعات التي ينتسب إليها، ومحاربة القارئ والتقاليد والدين والروح والأغلبية الساحقة (المسحوقة)، ذلك دون أن يدرك أنه يمارس استبدادا أو يساهم في تقوية الاستبداد القائم بابتعاده عن الموضوعات الأساسية التي تساهم في التأثير والتغيير.
لقد انحرف الفكر عن جوهره وأصبح في خطر داهم، قريبا جدا من "السوقية". لقد غدا شيئا آخر، مصالح أخرى وجوائز وأموالا وتبعية للآخر والآخر. لم يعد الفكر يعد، في مجمله، تلك القيمة الاستثنائية التي تميز عبقرية النخبة وقدرتها على التحليل والاستنتاج، بقدر ما أصبح بضاعة وسلعة كأي بضاعة أخرى، إن لم تكن منبوذة ومقززة، وغير مؤهلة لأن تمثل المجموعة الإنسانية وخياراتها.
في النهاية، ترافق حرب الأفكار طبيعيا الحرب الاقتصادية العالمية. فهي تفرض على دول أخرى في العالم التسلح من أجل الدبلوماسية الفكرية. في الحرب المعرفية، "المنتصر هو الذي يعرف كيف يمحي معلومة بمعلومة أخرى" هذا ما يقوله كريستيان هربولو(C.Harbulot)  من مدرسة الحرب الاقتصادية، في اليد الخفية للدول القوية ([2]). إن مثل التدخل الأمريكي في العراق يشهد على ذلك.



[1] - Keith Dixon, Les Évangélistes du marché, Paris, Raison d’agir, 1998.
[2] - Christian Harbulot, la Main invisible des puissances, Paris, Ellipses, 2005, 150 pages.

ليست هناك تعليقات: