مراكز التفكير والحروب الفكرية والإيديولوجية :
مختبرات الأفكار أصبحت سلاحا سياسيا يستعمل استراتيجيا على المدى البعيد. تشكل
مراكز أو مدرعات التفكير جزءا عضويا من نظام التفكير السياسي ومعترف بها على هذا
الأساس. سوق دولية للأفكار عن ما يجب أن تكون عليه السياسات العامة يجري عليها
الآن منافسة نشيطة. مراكز دفاعية (Advocacy Tanks)؛ خزانات ليس للأفكار ولكن للحجج
لمصلحة قضية ما، تتنافس على سوق للأفكار مزدحم أكثر فأكثر. مراكز الفكر هذه لا
تنتج أفكارا جديدة، إنها تبرر.
مراكز الفكر هي فعلا سلاح ذات وزن في حرب الأفكار المتفشية بين مختلف المفاهيم
في العالم. الدبلوماسية الثقافية والفكرية بخاصة أصبحت اليوم مكونا جوهريا في
استراتيجيات الدول التي عليها أن تعتمد أكثر فأكثر على خزانات الأفكار هذه من أجل
بسط سياستها. مراكز الفكر تستعمل كمكمل ضروري لأشكال أخرى من التفكير والفعل
السياسيين.
ميزة مراكز الفكر أنها لا تقتصر على ابتكار أفكار خلاقة فحسب، ولكن أن يكون لها
تأثير على المقررين السياسيين لكي يروا أفكارهم مطبقة وكيف يستطيعون الخلاص من
الفخاخ التي ينصبها لهم مجتمعنا الحالي، مجتمع الاتصالات، بوسائل إعلامه التي تقدس
الفوري والصورة التي تحدث الصدمة، والفاعلون السياسيون المتعطشون للحلول السريعة
ومنافسوهم المتزايدون باطراد، فمع المجازفة بخسارة روحهم يضحون بالأساس في سبيل
قشور الشهرة.
من هم رؤساء الدولة أو الوزراء الذين لا يحتاجون في بيئة محلية ودولية معقدة
أكثر فأكثر إلى أن يتغذوا بالأفكار والتحليلات والاقتراحات من أجل إدارة المشاكل
مثل أزمات الضواحي والأحياء الشعبية، بطالة الشباب، الهجرة السرية ونتائج العولمة
...الخ. فكلما صعبت المشاكل، كلما ظهر عجز المسؤولين عن إيجاد الحلول. ليس لديهم
الوقت للتفكير على المدى البعيد وإن ممارسة السلطة، والتتابع السريع للاستحقاقات
الانتخابية لا تسهل اتخاذ المخاطر أي التصور. لا مثيل لمجموعة من الباحثين
المبدعين والمسلحين بالشهادات والآتين من الآفاق المختلفة من أجل إعداد المقترحات
المتميزة بشرط أن يكون لديهم حرية التفكير في الزمن وليس واجب إنتاج دراسة بشكل
طارئ.
إن من يحدد مفردات النقاش والمداولات والأجندة الإعلامية والرهانات
الانتخابية هو من يستطيع أن يحمل تصورا جديدا مقنعا. وكما كتب الفيلسوف الاقتصادي جون ستيوارت مل(J. Stuart Mill) :" إن شخصا
يحمل قناعة قوية، لديه سلطة إقناع توازي تسعة وتسعين شخصا لا يقومون سوى بالدفاع
عن مصالحهم". ولكن لكي يجسد هذه القناعات يجب أن يتدخل في اللحظة
المناسبة، أي ما قبل النقاشات العامة. يجب معرفة تغذية النقاش في الزمان، من أجل
جعل الأفكار المطروحة مقبولة من الرأي العام وأصحاب القرار السياسيين الأكفاء،لوضعها
حيز التنفيذ. التاريخ يظهر أن الأفكار المدافع عنها بقوة قد تكون غير شعبية في
الأصل، ولكنها قد تصبح لابد منها عندما يطرأ عامل محفز ويغير رؤية العالم. مذ ذاك
لا يعود الأمر يتعلق بالتكيف مع متطلبات الرأي العام كما يظهر في الاستطلاعات،
ولكن بقولبتها، فمن شعارات مؤسسة كارنيجي:"يجب إرساء المؤسسات التي
ستسمح بالتغيير السياسي الضروري عندما تبرز المشاكل ويحين وقت العمل".
مركز الفكر هو معبر بين الذين لديهم أفكار ويحلمون بالوصول إلى السلطة
وبتطبيقها، وبين الذين هم في السلطة ويريدون أن يدعموا ممارستهم بالتحليل المعمق.
فائض القيمة لمراكز الفكر لا يصنف فقط على مستوى أصالة الفكرة، ولكن على مستوى
تكيفها مع حاجات الوسط السياسي. غالبية مراكز الفكر لا تفكر ولكنها تنظم فكر
الآخرين، فهي تعيد بيع الأفكار، مثيرة للأفكار الجديدة وداحضة لأفكار الآخرين.
إن مثال مراكز الفكر المحافظ الأمريكي هي تصوير جلي للدور الذي يمكن أن يلعبه
حلف الأفكار – جيدة أم رديئة – مع تصميم أفراد منظمين. فبدافع من الرؤية عن التفوق
الأمريكي في العالم ومدفوعة بالتصميم نفسه ومتنقلة بين النخب السياسية الأمريكية،
استطاعت مجموعة من النشطاء المثقفين، خلال سنوات 1990، أن تجعل فكرة التدخل
الأمريكي في العراق غير قابلة للتحوير. فمراكز التفكير هي ظاهرة متطورة جدا في
أمريكا، أعطت معنى جديدا لمفهوم أسلحة الدمار الشامل. في استعراض شريط الحجج
المقدمة من قبل إدارة بوش لتبرير التدخل في العراق، نجد رؤية بول ولفويتز(Wolfowitz) ولويس ليبي (Lewis Libby) مؤسسي "بناك" (PNAC) في عام 1997. فالهجوم
على العراق من قبل التحالف بقيادة الولايات المتحدة هو ثمرة المخاض لبعض الرؤوس
المفكرة الناشطة بشكل مميز والمثابرة، والتي تملك شبكات شخصية متينة. بأقل من عشر
سنوات، وصلت المفاهيم وصانعوها إلى السلطة. تصور للعالم اعتبر بداية كثمرة تخيل
لبعض الأفراد المنعزلين، انتهى إلى أن يحدد البرنامج السياسي الوطني ثم الدولي،
وأن يقنع غالبية الرأي العام الأمريكي، وأن يغير مجرى التاريخ. تصور للعالم حيث
"القوة هي الحق"، وحيث تعتبر الأمم المتحدة عائقا أمام القوة الأمريكية
الكاسحة. لقد أعيدت صياغة الخارطة الذهنية للمقررين ووسائط الإعلام وقطاع واسع من
المواطنين الأمريكيين. هذه الوقائع أصبحت اليوم مبرهنة. وهي في الحقيقة، لم تكن
يوما سرا. فالـ (PNAC) ومراكز الفكر ينشطون
في وضح النهار وينشرون مقترحاتهم ويبثونها عبر الانترنت ويناقشونها مع مراكز فكر
أخرى.
المشروع من أجل القرن الأمريكي الجديد (Project for the New American Century)، بعد ستة سنوات من
تأسيسه سنة 1997 من قبل حفنة من المحافظين الجدد([1])
(Néo- Conservateurs)، بدعم من صناعيين في
قطاع السلاح مثل لوكهيد (Lockheed) ومارتن (Martin)، حقق الهجوم الأمريكي ضد عراق صدام حسين برنامجه في
"الحرب الوقائية" ضد الدول المارقة (Etat voyous). مصادفة أم سببية؟ في
رسالة إلى الرئيس كلينتون (Clinton) سنة 1998، رسمت هذه المؤسسة (الباناك) مخطط السيطرة
الأمريكية على العالم، ونصبت نفسها محامي التغيير الجذري إزاء منظمة الأمم المتحدة
وقلب نظام صدام.
عندما انهار الإتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات، خشيت الولايات المتحدة
الأمريكية أن يقع لها نفس الشيء، فاستدعى صناع القرار في هذا البلد كبار المؤرخين،
وطلب منهم تقديم دراسات عن العوامل التي تجعل الإمبراطوريات تسقط أو تصعد، ومن أهم
هذه الدراسات التي قدمت عمل المؤرخ الأمريكي الكبير بول كيندي "صعود
وسقوط القوى العظمى"، أين توصل فيه بعد دراسات الإمبراطوريات عبر التاريخ
إلى نتيجة مفادها أن الإمبراطورية تسقط إذا لم تسيطر على شيئين متلازمين هما القوة
الاقتصادية والقوة العسكرية، فمثلا الاتحاد السوفياتي كان يملك القوة العسكرية
لكنه ضعيف اقتصاديا، وهو سبب سقوط هذه الإمبراطورية، ووصل إلى نفس الأمر لكل
الإمبراطوريات عبر التاريخ.وقد كانت هذه الدراسات التاريخية هي التي حددت
إستراتيجية جديدة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تطوير قوتها المسلحة حتى تردع
العالم كله، ومن جهة أخرى ضرورة السيطرة على منابع النفط بصفتها شريان الاقتصاد
الأمريكي، ومن خلال ذلك قررت الولايات المتحدة أيضا غزو العراق بصفته يمتلك أكبر
احتياطي للنفط، وكي تكون قريبة من منابع النفط في الخليج. وحتى عندما وضعت هذه
الإستراتيجية فإنها استعانت بأحد أكبر المؤرخين وهو برنارد لويس بصفته يعرف
جيدا تاريخ العرب والمسلمين،ذلك لهدف وضع خطط ناجعة وفعالة في العراق وغيرها من
البلدان التي خطط للسيطرة عليها.
ودائما ضمن أهمية التاريخ والدراسات التاريخية نذكر إسرائيل التي وضعت معهدا
متخصصا فقط في الحروب الصليبية، وتريد أن
تعرف كل صغيرة وكبيرة عن هذه الحروب، ولماذا نجح صلاح الدين الأيوبي في طرد
الصليبيين؟وهدفها من ذلك كله تجنب الأخطاء التي وقعت فيها الإمارات الصليبية في
المشرق الإسلامي.
[1]- منهم جاب بوش Jeb Bush، أخ الرئيس المقبل
وحاكم فلوريدا، فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama)، مؤلف المقال الصادر في مجلة
ناسيونالانترست (National
Interest) في صيف 1989 : "نهاية التاريخ؟" بعد
نهاية الإمبراطورية السوفياتية، روبير كاقان (Robert Kagan)، شريك ومتعاون مع
مؤسسة كارنيجي (Fondation Carnegie) ومؤلف الكتاب من
الأكثر مبيعا (best seller) : "Paradise and power : America and
Europe the New World Order" زلماي خليل زاد (ZalmayKhalilzad)، لويس ليبي (Lewis Libby)،
دان كوايل (Dan Quale) نائب الرئيس السابق لريقن (Reagan): دونالد رامسفيلد (Donald Rumsfeld)، و بول وولفوويتز (Wolfowitz).
هناك تعليق واحد:
On va rendre les humain humaniste, et on va changer le monde impérial capitaliste pour un monde humaniste plein de bonheur et d'amour .
إرسال تعليق